سورة الأنعام - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


قلت: {مفَاتِح}: جمعِ مفتح بكسر الميم مقصور، من مفتاح، وهو آلة الفتح، وهو مستعار لما يتوصل به إلى الغيوب، أو يفتحها، وهو المخزن.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وعنده مفاتح الغيب} أي: علم المغيبات، لا يعلمها غيره، إلا من ارتضى من خلقه، أو: عنده خزائن علم الغيوب لا يعلمها غيره، والمراد بها الخمسة التي ذكرها الحق تعالى في سورة لقمان: {إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمَان: 34] الآية؛ لأنها تعم جميع الأشياء، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله، فقد اختص سبحانه بعلم المغيبات {لا يعلمها إلا هو}؛ فيعلم أوقاتها وما في تعجيلها وتأخيرها من الحِكَم، فيظهرها على ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته، وفيه دليل على أن الله تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها، وهو أمر ضروري.
{ويعلم ما في البر والبحر} من عجائب المصنوعات وضروب المخلوقات؛ على اختلاف أجناسها وأنواعها، حيها وجامدها، فيعلم عددها وصفتها وأماكنها، {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها} كيف تسقط، على ظهرها أو بطنها، وما يصل منها إلى الأرض وما يتعلق في الهواء، وهو مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيات، كما تعلق بالكليات، {ولا حبة في ظلمات الأرض} من حبوب الثمار وبذور سائر النبات، والرمل، وغير ذلك من دقائق الأشياء وجلائلها، {ولا رطب ولا يابس} من الأشجار والنبات والحيوانات التي فيها الحياة والتي فارقتها، فهي من جنس اليابس، {إلا في كتاب مبين} أي: علم الله القديم، أو اللوح المحفوظ، فعلى الأول، يكون بدلاً من الاستثناء الأول، بدل الكل من الكل، وعلى الثاني: بدل اشتمال. وقرئت بالرفع، على العطف على محل: {من ورقة}، أو على الابتداء، والخبر: {في كتاب مبين}.
الإشارة: مفاتح الغيب هي أسرار الذات وأنوار الصفات، أو أنوار الملكوت وأسرار الجبروت، لا يعلمها إلا هو، فما دام العبد محجوبًا بوجود نفسه، محصورًا في هيكل ذاته، لا يذوق شيئًا من هذه الغيوب، فإذا أراد الحق جل جلاله أن يفتح على عبده شيئًا من هذه الغيوب، غطى وصف عبده بوصفه، ونعته بنعته، فغيَّبه عن وجود نفسه، فصار هو سمعه وبصره وقلبه وروحه، فيعلم تلك الأسرار به، لا بنفسه، فما علم تلك الأسرار غيره، ويحيط بأسرار الأشياء كلها، برها وبحرها؛ لأنه يصير خليفة الله في أرضه. وقال الورتجبي: غَيبُه ذاته القدسية، وهي خزانة أسرار الأزل والأباد، ومفاتحها: صفاتها الأزلية، لا يعلم صفاته وذاته بالحقيقة إلا هو تعالى بنفسه، فَنَفى الغير عن البين، حيث لا حيث ولا بين. انظر تمامه فيه.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {وهو الذي يتوفاكم} أي: يقبض أرواحكم {بالليل} إذ نمتم، وفي ذلك اعتبار واستدلال على البعث الأخروي، {ويعلم ما جَرَحتم} أي: ما كسبتم من الأعمال {بالنهار}، وخص الليل بالنوم والنهار بالكسب جريًا على المعتاد، {ثم إذا} توفاكم بالليل {يبعثكم فيه} أي: في النهار، {ليُقضى أجل مُسمى} أي: ليبلغ المتيقظ آخر أجله المسمى له في الدنيا، وهو أجل الموت، {ثم إليه مرجعكم} بالموت {ثم يُنبئُكم بما كنتم تعملون} فيعاتب المسيء ويكرم المحسن.
رُوِي: أن العبد إذا قُبض عَرجت الملائكة برُوحه إلى سِدرة المنتهَى، فيُوقف به هناك، فيُعاتبه الحق تعالى على ما فرط منه حتى يَرفَضَّ عرقًا، ثم يقول له: قد غفرتُ لك، اذهبوا به ليرى مقعدَه في الجنة، ثم يُردّ إلى السؤال.
{وهو القاهر فوق عباده} بالقهر والغلبة، {ويُرسل عليكم حفظةً}؛ ملائكة تحفظ أعمالكم، وهم الكرام الكاتبون، والحكمة فيه: أن العبد إذا علم أن أعماله تكتب عليه وتُعرض على رؤوس الأشهاد، كان أزجر له عن المعاصي، ثم لا تزال الملائكة تكتب عليه أعماله {حتى إذا جاء أحدَكُم الموتُ توفتهُ رسُلنا} أي: ملك الموت وأعوانه، {وهم لا يٌفرطون} بالتواني التأخير، ولا يجازون ما حد لهم بالتقديم والتأخير. {ثم رُدّوا إلى الله} أي: إلى حُكمه وجزائه، أو مشاهدته وقربه، {مولاهم} الذي يتولى أمرهم، {الحقِّ} أي: المتحقق وجوده، وما سواه باطل، {ألا له الحُكم} يومئذٍ، لا حكم لغيره فيه، {وهو أسرع الحاسبين}؛ يحاسب الخلائق في مقدار حلب شاة، لا يشغله حساب عن حساب، ولا شأن عن شأن، سبحانه لا إله إلا هو.
الإشارة: وهو الذي يتوفاكم، أي: يخلصكم بليل القبض، ويعلم ما كسبتم في نهار البسط، ثم يبعثكم من ليل القبض إلى نهار البسط، وهكذا؛ ليقضى أجل مسمى للإقامة فيهما، ثم إليه مرجعكم بالخروج عنهما؛ لتكونوا لله لا شيء دونه، وفي الحكم: (بسطك كي لا يبقيك مع القبض، وقبضك كي لا يتركك مع البسط، وأخرجك عنهما، كي لا تكون لشيء دونه).
وقال فارس رضي الله عنه: القبض أولاً ثم البسط، ثم لا قبض ولا بسط؛ لأن القبض والبسط يقعان في الوجود؛ أي؛ في وجود النفس، وأما مع الفناء والبقاء فلا. اهـ. أي: فلا قبض ولا بسط؛ لأن العارف الواصل مقبوض في بسطه، مبسوط في قبضه، لا تؤثر فيه هواجم الأحوال؛ لأنه مالك غير مملوك. والله تعالى أعلم.
ومن علم أن الله قاهر فوق عباده، انسلخ من حوله وقوته، وانعزل عن تدبيره واختياره؛ لإحاطة القهرية به، ومن تحقق عموم قهاريته تعالى، علم أنه لا حجاب حسي بينه وبينه، إذ لو حجبه شيء لستره ما حجبه، ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر، وكل حاصر لشيء فهو له قاهر، (وهو القاهر فوق عباده)، وإنما المحجوب: العبد عن ربه بوجود وهمه وجهله، ومن تحقق أن الملائكة تحفظ أعماله استحيا من ارتكاب القبائح، لئلا تعرض على رؤوس الأشهاد.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل من ينجيكم} أي: يُخلصكم {من ظلمات البر والبحر} أي: من شدائدهما، استعير الظلمة للشدة، لمشاركتهما في الهول، فقيل لليوم الشديد: يوم مظلم، أو: من الخسف في البر والغرق في البحر، حال كونكم {تدعونه تضرعًا وخُفية} أي: جهرًا وسرًا، قائلين: {لئن أنجيتنا من هذه} الظلمة، أي: الشدة، {لنكونن من الشاكرين} بإقرارنا بوحدانيتك، {قل الله يُنجيكم منها ومن كل كرب} أي: غم سواها، {ثم أنتم تُشركون} أي: تعودون إلى الشرك ولا تُوفون بالعهد، وهذا شأن النفس اللئيمة؛ في وقت الشدة ترجع إلى الحق وتوحده، وفي وقت السعة تنساه وتشرك معه، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُم مًّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الرُّوم: 33].
الإشارة: ظلمات البر هو ما يخوض القلب ويظلمه؛ من أجل ما يدخل عليه من حس الظاهر، الذي هو بر الشريعة، وظلمات البحر هو ما يدهش الروح ويحيرها من أجل ما يدهمها من علم الحقائق، عند الاستشراف عليها، أو ما يشكل عليها في علم التوحيد، فإذا رجع إلى الله فيهما، وتمسك بشيخ كامل في علم الحقائق أنجاه الله منهما، فإذا شكر الله وأفرد النعمة إليه دامت نجاته، وإن التفت إلى غيره خيف عليه العوُد إلى ما كان عليه. وبالله التوفيق.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14